فصل: التخلص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع الثالث والعشرون: في التخلص والاقتضاب:

وهذا النوع أيضاً كالذي قبله في أنه أحد الأركان الخمسة التي تقدمت الإشارة إليها في الفصل التاسع من مقدمة الكتاب.
وينبغي لك أيها المتوشح لهذه الفضيلة أن تصرف إليه جل همتك، فإنه مهم عظيم من مهمات البلاغة.

.التخلص:

أما التخلص- وهو أن يأخذ مؤلف الكلام في معنى من المعاني فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى آخر غيره وجعل الأول سببا إليه- فيكون بعضه آخذا برقاب بعض، من غير أن يقطع كلامه، ويستأنف كلاما آخر، بل يكون جميع كلامه كأنما أفرغ إفراغا، وذلك مما يدل على حذق الشاعر، وقوة تصرفه، من أجل أن نطاق الكلام يضيق عليه، ويكون متبعا للوزن والقافية فلا تواتيه الألفاظ على حسب أرادته، وأما الناثر فإنه مطلق العنان يمضي حيث شاء، فلذلك يشق التخلص على الشاعر أكثر مما يشق على الناثر.
وأما الاقتضاب فإنه ضد التخلص، وذاك: أن يقطع الشاعر كلامه الذي هو فيه ويستأنف كلاما آخر غيره من مديح أو هجاء أو غير ذلك، ولا يكون للثاني علاقة بالأول.
وهو مذهب العرب ومن يليهم من المخضرمين، وأما المحدثون فإنهم تصرفوا في التخلص فأبدعوا وأظهروا منه كل غريبة.
فمن ذلك قول أبي تمام:
يقول في قومس صحبي وقد أخذت ** منا السرى وخطا المهرية القود

أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا ** فقلت كلا ولكن مطلع الجود

وهذان البيتان من بديع ما يأتي في هذا الباب ونادره.
وكذلك قوله أيضاً في وصف أيام الربيع ثم خرج من ذكر الربيع وما وصفه به من الأوصاف فقال:
خلق أطل من الربيع كأنه ** خلق الإمام وهديه المنتشر

في الأرض من عدل الإمام وجوده ** ومن النبات الغض سرج تزهر

تنسي الرياض وما يروض جوده ** أبدا على مر الليالي يذكر

وهذا من ألطف التخلصات وأحسنها.
وكذلك قوله في قصيدته الفائية التي أولها:
أما الرسوم فقد أذكرن ما سلفا

فقال فيها:
غيداء جاد ولي الحسن سنتها ** فصاغها بيديه روضة أنفا

يضحي العذول على تأنيبه كلفا ** بعذر من كان مشغوفا بها كلفا

ودع فؤادك توديع الفراق فما ** أراه من سفر التوديع منصرفا

تجاهد الشوق طورا ثم تجذبه ** جهاده للقوافي في أبي دلفا

وهذا أحسن من الذي قبله، وأدخل في باب الصنعة.
وكذلك جاء قوله:
زعمت هواك عفا الغداة كما عفت ** منها طلول باللوى ورسوم

لا والذي هو عالم أن النوى ** أجل وأن أبا الحسين كريم

ما حلت عن سنن الوداد ولا غدت ** نفسي على إلف سواك تحوم

وهذا خروج من غزل إلى مديح أغزل منه.
ومن البديع في هذا الباب قول أبي نواس من جملة قصيدته المشهورة التي أولها:
أجارة بيتينا أبوك غيور

فقال عند الخروج إلى ذكر الممدوح:
تقول التي من بيتها خف مركبي ** عزيز علينا أن نراك تسير

أما دون مصر للغنى متطلب ** بلى إن أسباب الغنى لكثير

فقلت لها واستعجلتها بوادر ** جرت فجرى في جريهن عبير

ذريني أكثر حاسديك برحلة ** إلى بلد فيها المصيب أمير

ومما جاء من التخلصات الحسنة قول أبي الطيب المتنبي في قصيدته الدالية التي أولها:
عواذل ذات الخال في حواسد

وأورد نفسي والمهند في يدي ** موارد لا يصدرن من لا يجالد

ولكن إذا لم يحمل القلب كفه ** على حالة لم يحمل الكف ساعد

خليلي إني لا أرى غير شاعر ** فكم منهم الدعوى ومني القصائد

فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ** ولكن سيف الدولة اليوم واحد

وهذا هو الكلام الآخذ بعضه برقاب بعض، ألا ترى إلى الخروج إلى مدح الممدوح في هذه الأبيات كأنه أفرغ في قالب واحد، ثم إن أبا الطيب جمع بين مدح نفسه ومدح سيف الدولة في بيت واحد، وهو من بدائعه المشهورة.
وكذلك قوله أيضا، وهو من أحسن ما أتى به من التخلصات، وهو في قصيدته التي أولها:
سرب محاسنه حرمت ذواتها

فقال في أثنائها:
ومطالب فيها الهلاك أتيتها ** ثبت الجنان كأنني لم آتها

ومقانب بمقانب غادرتها ** أقوات وحش كن من أقواتها

أقبلتها غرر الجياد كأنما ** أيدي بني عمران في جبهاتها

الثابتين فروسة كجلودها ** في ظهرها والطعن في لباتها

فكأنها نتجت قياما تحتهم ** وكأنهم ولدوا على صهواتها

تلك النفوس الغالبات على العلا ** والمجد يغلبها على شهواتها

سقيت منابتها التي سقت الورى ** بيدي أبي أيوب خير نباتها

فانظر إلى هذين التخلصين البديعين، فالأول خرج به إلى مدح قوم الممدوح، والثاني خرج به إلى نفس الممدوح، وكلاهما قد أغرب فيه كل الإغراب.
وعلى هذا جاء قوله:
إذا صلت لم أترك مصالا لفاتك ** وإن قلت لم أترك مقالا لعالم

وإلا فخانتني القوافي وعاقني ** عن ابن عبيد الله ضعف العزائم

والشعراء متفاوتون في هذا الباب، وقد يقصر عنه الشاعر المفلق المشهور بالإجادة في إيراد الألفاظ واختيار المعاني، كالبحتري، فإن مكانه من الشعر لا يجهل، وشعره هو السهل الممتنع الذي تراه كالشمس قريبا ضوؤها بعيدا مكانها، وكالقناة لينا مسها خشنا سنانها، وهو على الحقيقة قينة الشعراء في الإطراب، وعنقاؤهم في الإغراب، ومع هذا فإنه لم يوفق في التخلص من الغزل إلى المديح بل اقتضبه اقتضابا، ولقد حفظت شعره فلم أجد له من ذلك شيئا مرضيا إلا اليسير، كقوله في قافية الباء من قصيدة:
وكفاني إذا الحوادث أظلم ** ن شهابا بغرة ابن شهاب

وكقوله في قافية الدال من قصيدة:
قصدت لنجران العراق ركابنا ** يطلبن أرحبها محلة ما جد

آليت لا تلقين جداً صاعدا ** في مطلب حتى تناخ بصاعد

وكقوله في قصيدته التي أولها:
حلفت لها بالله يوم التفرق

فإنه تشوق إلى العراق من الشام، وصف العراق ومنازله ورياضه، فأحسن في ذلك كله، ثم خرج إلى مدح الفتح بن خاقان بسياقة آخذ بعضها برقاب بعض، فقال:
رباع من الفتح بن خاقان لم تزل ** غنى لعديم أو فكاكا لموثق

ثم أخذ في مدحه بعد ذلك بضروب من المعاني.
وكذلك ورد قوله في قصيته التي أولها:
ميلوا إلى الدار من ليلى نحييها

فإنه وصف البركة فأبدع في أوصافها، ثم خرج منها إلى مدح الخليفة المتوكل، فقال:
كأنها حين لجت في تدفقها ** يد الخليفة لما سال واديها

وأحسن ما وجدته له، وهو مما لطف فيه كل التلطيف، قوله في قصيدته التي يمدح بها ابن بسطام ومطلعها:
نصيب عينك من سح وتسجام

فقال عند تخلصه إلى المديح:
هل الشباب ملم بي فراجعة ** أيامه لي في أعقاب أيام

لو أنه بابل عمر يجاذبه ** إذا تطلبته عند ابن بسطام

وهذا من الملائح في هذا الباب.
وله مواضع أخرى يسيرة بالنسبة إلى كثرة شعره.
وقال أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي: إن كتاب الله خال من التخلص.
وهذا القول فاسد، لأن حقيقة التخلص إنما هي الخروج من كلام إلى آخر غيره بلطيفة تلائم الكلام الذي خرج منه والكلام الذي خرج إليه، وفي القرآن الكريم مواضع كثيرة من ذلك، كالخروج من الوعظ والتذكير بالإنذار والبشارة بالجنة إلى أمر ونهي ووعد ووعيد، ومن محكم إلى متشابه، ومن صفة لنبي مرسل وملك منزل إلى ذم شيطان مريد وجبار عنيد، بلطائف دقيقة، ومعان آخذ بعضها برقاب بعض.
فما جاء من التخلص في القرآن الكريم قوله تعالى: {واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت هو يشفين والذي يميتني ثم يحين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أينما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين} هذا كلام يسكر العقول، ويسحر الألباب، وفيه كفاية لطالب البلاغة، فإنه متى أنعم فيه نظره وتدبر أثناءه ومطاوي حكمته على أن في ذلك غنى عن تصفح الكتب المؤلفة في هذا الفن، ألا ترى ما أحسن ما رتب إبراهيم عليه السلام كلامه مع المشركين حين سألهم أولاً عما يعبدون سؤال مقرر لا سؤال مستفهم، ثم أنحى على آلهتهم، فأبطل أمرها بأنها لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، وعلى تقليد آبائهم الأقدمين فكسره وأخرجه من أن يكون شبهة فضلا عن أن يكون حجة، ثم أراد الخروج من ذلك إلى ذكره الإله الذي لا تجب العبادة إلا له، ولا ينبغي الرجوع والإنابة إلا إليه، فصور المسألة في نفسه دونهم، بقوله: {فإنهم عدو لي} على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو وهو الشيطان، فاجتنبتها، وآثرت عبادة من الخير كله في يده، وأراهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه، لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله، وأبعث على الاستماع منه، ولو قال فإنهم عدو لكم لم يكن بتلك المثابة، فتخلص عند تصويره المسألة في نفسه إلى ذكر الله تعالى، فأجرى عليه تلك الصفات العظام، من تفخيم شأنه وتعديد نعمه من لدن خلقه وأنشأه إلى حين وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ليعلم من ذلك أن من هذه صفاته حقيق بالعبادة، واجب على الخلق الخضوع له، والاستكانة لعظمته، ثم خرج من ذلك إلى ما يلائمه ويناسبه، فدعا الله بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوابين، لأن الطالب من مولاه إذا قدم قبل سؤاله وتضرعه الاعتراف بالنعمة كان ذلك أسرع للإجابة، وأنجح لحصول الطلبة، ثم أدرج في ضمن دعائه ذكر البعث ويوم القيامة، ومجازاة الله تعالى من آمن به واتقاه بالجنة ومن ضل عن عبادته بالنار، فجمع بين الترغيب في طاعته والترهيب من معصيته، ثم سأل المشركين عما كانوا يعبدون سؤالا ثانياً عند معاينة الجزاء، وهو سؤال موبخ لهم مستهزئ بهم، وذكر ما يدفعون إليه عند ذلك من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمني العودة ليؤمنوا، فانظر أيها المتأمل إلى هذا الكلام الشريف الآخذ بعضه برقاب بعض، مع احتوائه على ضروب من المعاني فيخلص من كل واحد منها إلى الآخر بلطيفة ملائمة، حتى كأنه أفرغ في قالب واحد، فخرج عن ذكر الأصنام وتنفير أبيه وقومه من عبادتهم إياها مع ما هي فيه من التعري عن صفات الإلهية حيث لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع إلى ذكر الله تعالى فوصفه بصفات الإلهية فعظم شأنه وعدد نعمه، ليعلم بذلك أن العبادة لا تصح إلا له، ثم خرج من هذا إلى دعائه إياه وخضوعه له، ثم خرج منه إلى ذكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه، فتدبر هذه التخلصات اللطيفة المودعة في أثناء هذا الكلام.
وفي القرآن مواضع كثيرة من التخلصات، كالذي ورد في سورة الأعراف، فإنه ذكر فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية من آدم إلى نوح عليهما السلام، وكذلك إلى قصة موسى عليه السلام، حتى انتهى إلى آخرها الذي هو: {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} هذا تخلص من التخلصات الحسان، فإن الله تعالى ذكر الأنبياء والقرون الماضية إلى عهد موسى عليه السلام، فلما أراد ذكر نبينا صلوات الله عليه وسلامه ذكره بتخلص انتظم به بعض الكلام ببعض، ألا ترى أنه قال موسى عليه السلام: {واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة} فأجيب بقوله تعالى: {قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين} من حالهم كذا وكذا، ومن صفتهم كيت وكيت، وهم الذين: {يتبعون الرسول النبي الأمي} ثم وصفه صلوات الله عليه بصفاته إلى آخر الكلام.
ويالله العجب كيف يزعم الغانمي أن القرآن خال من التخلص؟ ألم يكفه سورة يوسف عليه السلام فإنها قصة برأسها، وهي مضمنة شرح حاله مع إخوته من أول أمره إلى آخره، وفيها عدة تخلصات في الخروج من معنى إلى معنى، وكذلك إلى آخرها.
ولو أخذت في ذكر ما في القرآن الكريم من هذا النوع لأطلت، ومن أنعم نظره فيه وجد من ذلك أشياء كثيرة.
وقد جاءني من التخلصات في الكلام المنثور أشياء كثيرة، وسأذكر هاهنا نبذة يسيرة منها.
فمن ذلك ما أوردته في كتاب إلى بعض الإخوان أصف فيه الربيع، ثم خرجت من ذلك إلى ذكر الأشواق، فقلت: وكما أن هذه الأوصاف في شأنها بديعة، فكذلك شوقي في شأنه بديع، غير أنه لحره فصل مصيف وهذا فصل ربيع، فأنا أملي أحاديثه العجيبة على النوى، وقد عرفت حديث من قتله الشوق فلا أستفض حديث من قتله الهوى.
ومن هذا الأسلوب ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوان أيضا، وأرسلته إليه من بلاد الروم، وهو كتاب يشتمل على وصف البرد وما لاقيته منه، ثم خرجت من ذلك إلى ذكر الشوق، فقلت: ومما أشكوه من بردها أن الفرو لا يلبس إلا في شهر ناجر، وهو قائم مقام الظل الذي يتبرد به من لفح الهواجر، ولفظ شدته لم أجد ما يحققه فضلا عما يذهبه، فإن النار المعدة له تطلب من الدفء أيضاً ما أطلبه، لكن وجدت نار أشواقي أشد حرا فاصطليت بجمرها التي لا تذكي بزناد ولا تئول إلى رماد، ولا يدفع البرد الوارد على الجسد بأشد من حر الفؤاد، غير أني كنت في ذلك كمن سد خلة بخلة، واستشفى من علة بعلة، وأقتل ما أغلك ما شفاك فما ظنك بمن يصطلي نار الأشواق، وقد قنع من أخيه بالأوراق فضن عليه بالأوراق.
ومما ينتظم في هذا العقد ما ذكرته في مفتتح كتاب يتضمن عناية ببعض المتظلمين، فاستطردت فيه المعنى إذ ذكر المكتوب إليه، وهو: هدايا المكارم أنفس من هدايا الأموال، وأبقى على تعاقب الأيام والليال، وقد حمل هذا الكتاب منها هدية تورث حمدا وتكسب مجدا، وهي خير ثوابا وخير مردا، ولا يسير بها إلا سجية طبعت على الكرم، وخلقت من عنصر الديم، كسجية مولانا أعلاه الله علوا تفخر به الأرض علىالسماء، وتحسده شمس النهار ونجوم الظلماء، ولا زالت أياديه مخجلة صوب الغمام، معدية على نوب الأيام، مغنية بشرف فضلها على شرف الأخوال والأعمام، وتلك الهدية هي تجريد الشفاعة في أمر فلان ومن إيمان المرء سعيه في حاجة أخيه، وإن لم يمسه بشيء من أسباب أواخيه، فإن المؤمنين إخوة وإن تباينت مناسبهم، وتفاوتت مراتبهم، ومن صفتهم أن يسعى بذمتهم أدناهم، وخيرهم من عناه من الأمر ما عناهم، ثم مضيت على هذا النهج إلى آخر الكتاب.
ومن ذلك ما كتبته من كتاب إلى صديق استحدثت مودته، وهو من أهل العراق، وكنت اجتمعت به بالموصل ثم سارعني، فكتبت إليه أستهديه رطبا، فقلت: هذه المكاتبة ناطقة بلسان الشوق الذي تزف كلمه زفيف الأوراق، وتسجع سجع ذوات الأطواق، وتهتف وهي مقيمة بالموصل فتسمع من هو مقيم بالعراق، وأبرح الشوق ما كان عن فراق غير بعيد، وود استجدت حلته واللذة مقترنة بكل شيء جديد، وأرجو ألا يبلى قدم الأيام لهذه الجدة لباسا، وأن يعاذ من نظرة الجن والإنس حتى لا يخشى جنة ولا بأسا، وقد قيل: إن للمودات طعما كما أن لها وسما، وإن ذا اللب يصادق نفسا قبل أن يصادق جسما، وإني لأجد لمودة سيدنا حلاوة يستلذ دوامها، ولا يمل استطعامها، وقد أذكرتني الآن بحلاوة الرطب الذي هو من أرضها، وغير عجيب لمناسبة الأشياء أن يذكر بعضها ببعضها، إلا أن هذه الحلاوة تنال بالأفواه وتلك تنال بالأسرار، وفرق بين ما يغترس بالأرض وما يغترس بالقلب في شرف الثمار، فلا ينظر سيدنا علي في هذا التمثيل، ولربما كان ذلك تعريضا ينوب مناب التطفيل.
وهذا من التخلصات البديعة، فانظر أيها المتأمل كيف سقت الكلام إلى استهداء الرطب وجعلت بعضه آخذا برقاب بعض، حتى كأنه أفرغ في قالب واحد؟ وكذلك فليكن التخلص من معنى إلى معنى.
وهذا القدر من الأمثلة كاف للمتعلم.
ومما أستظرف من هذا النوع في الشعر قول ابن الزمكرم الموصلي وهو:
وليل كوجه البرقعيدي مظلم ** وبرد أغانيه وطول قرونه

سريت ونومي فيه نوم مشرد ** كعقل سليمان بن فهد ودينه

على أولق فيه التفات كأنه ** أبو جابر في خبطه وجنونه

إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ** سنا وجه قرواش وضوء جبينه

وهذه الأبيات لها حكاية، وذاك أن هذا الممدوح، وهو شرف الدولة قراوش ملك العرب، وكان صاحب الموصل، فاتفق أنه كان جالسا مع ندمائه في ليلة من ليالي الشتاء، وفي جملتهم هؤلاء الذين هجاهم الشاعر، وكان البرقعيدي مغنيا، وسليمان بن فهد وزيرا، وأبو جابر حاجبا، فالتمس شرف الدولة من هذا الشاعر أن يهجو المذكورين ويمدحه، فأنشد هذه الأبيات ارتجالا، وهي غريبة في بابها: لم يسمع بمثلها، ولم يرض قائلها بصناعة التخلص وحدها، حتى رقي في معانيه المقصودة إلى أعلى منزلة، فابتدأ البيت الأول يهجو البرقعيدي، فجاءه في ضمن مراده ذكر أوصاف ليل الشتاء جميعها، وهي الظلمة والبرد والطول، ثم إن هذه الأوصاف الثلاثة جاءت ملائمة لما شبهت به مطابقة له، وكذلك البيت الثاني والثالث، ثم خرج إلى المديح بألطف وجه، وأدق صنعة وهذا يسمى الاستطراد، وما سمعت في هذا الباب بأحسن من هذه الأبيات.
ومما يجري على هذا الأسلوب ما ورد لابن الحجاج البغدادي، وهي أبيات لطيفة جدا:
ألا يا ماء دجلة لست تدري ** بأني حاسد لك طول عمري

ولو أني استطعت سكرت سكرا ** عليك فلم تكن يا ماء تجري

فقال الماء ما هذا عجيب ** بم استوجبته يا ليت شعري

فقلت له لأنك كل يوم ** تمر على أبي الفضل بن بشر

تراه ولا أراه وذاك شيء ** يضيق عن احتمالك فيه صبري

وما علمت معنى في هذا المقصد ألطف ولا أرق ولا أعذب ولا أحلى من هذا اللفظ، ويكفي ابن الحجاج من الفضيلة أن يكون له مثل هذه الأبيات.
ولا تظن أن هذا شيء انفرد به المحدثون لما عندهم من الرقة واللطافة، وفات من تقدمهم لما عندهم من قشف العيش وغلظ الطبع، بل قد تقدم أولئك إلى هذا الأسلوب، وإن أقلوا منه وأكثر منه المحدثون، وأي حسن من محاسن البلاغة والفصاحة لم يسبقوا إليه؟ وكيف لا وهم أهله ومنهم علم وعنهم أخذ؟ فمن ذلك ما جاء للفرزدق وهو:
وركب كأن الريح تطلب عندهم ** لها ترة من جذبها بالعصائب

سروا يخبطون الليل وهي تلفهم ** إلى شعب الأكوار من كل جانب

إذا آنسوا نارا يقولون ليتها ** وقد خصرت أيديهم نار غالب

فانظر إلى هذا الاستطراد ما أفحله وأفخمه.
واعلم أنه قد يقصد الشاعر التخلص فيأتي به قبيحا، كما فعل أبو الطيب المتنبي في قصيدته التي أولها:
مثل القطر أعطشها ربوعها

فقال عند الخروج من الغزل إلى المديح:
غدا بك كل خلو مستهاما ** وأصبح كل مستور خليعا

أحبك أو يقولوا جر نمل ** ثبيرا وابن إبراهيم ريعا

وهذا تخلص كما تراه بارد، ليس عليه من مسحة الجمال شيء، وهاهنا يكون الاقتضاب أحسن من التخلص، فينبغي لسالك هذه الطريق أن ينظر إلى ما يصوغه، فإن واتاه التخلص حسنا كما ينبغي وإلا فليدعه، ولا يستكرهه حتى يكون مثل هذا، كما فعل أبو الطيب ولهذا نظائر وأشباه، وقد استعمل ذلك في موضع آخر في قصيدته التي أولها:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا

فقال:
عل الأمير يرى ذلي فيشفع لي ** إلى التي تركتني في الهوى مثلا

والإضراب عن مثل هذا التخلص خير من ذكره، وما ألقاه في هذه الهوة إلا أبو نواس فإنه قال:
سأشكو إلى الفضل بن يحيى بن خالد ** هواك لعل الفضل يجمع بيننا

على أن أبا نواس أخذ ذلك من قيس بن ذريح، لكنه أفسده ولم يأت به كما أتى به قيس، ولذلك حكاية، وهو أنه لما هام بلبنى في كل واد وجن بها رق له الناس ورحموه، فسعى له ابن أبي عتيق إلى أن طلقها من زوجها، وأعادها إلى قيس فزوجها إياه فقال عند ذلك:
جزى الرحمن أفضل ما يجازي ** على الإحسان خيرا من صديق

وقد جربت إخواني جميعا ** فما ألفيت كابن أبي عتيق

سعى في جمع شملي بعد صدع ** ورأي حرت فيه عن طريقي

وأطفى لوعة كانت بقلبي ** أغصتني حرارتها بريقي

وبين هذا الكلام وبين كلام أبي نواس بون بعيد، وقد حكي عن ابن أبي عتيق أنه قال: يا حبيبي أمسك عن هذا المديح فما يسمعه أحد إلا ظنني قوادا.